
عند الحديث عن تحسين قدرة الذكاء الاصطناعي على الاستدلال، غالبًا ما يتجه الباحثون إلى زيادة حجم النموذج أو استخدام أساليب مثل "التفكير المتسلسل" (Chain-of-Thought).
ورغم فعالية هذه الأساليب، فإنها تعاني من مشكلات مثل الحاجة إلى موارد ضخمة وطول فترة التدريب.
لكن ماذا لو كان بالإمكان تحسين قدرات الذكاء الاصطناعي بطريقة أكثر كفاءة دون الحاجة إلى نماذج عملاقة؟
التحدي الأساسي في تطوير الذكاء الاصطناعي
قبل أن نتعمق في تفاصيل الابتكار الجديد، من المهم أن نتوقف لحظة عند رأي أحد أبرز العقول في مجال الذكاء الاصطناعي: يان ليكان، كبير علماء الذكاء الاصطناعي في شركة ميتا.
ليكان، المعروف بآرائه الصريحة والمستنيرة، لا يخفي قلقه بشأن التوجه الحالي في تطوير نماذج اللغة الكبيرة.
وفي مقابلات عديدة، كان واضحًا في تحذيره من الاعتقاد بأن هذه النماذج قادرة حقًا على "التفكير" أو "التخطيط" مثل البشر.
فهو يرى أن قدرة هذه النماذج تقتصر على التلاعب باللغة ببراعة، لكنها تفتقر إلى الفهم الحقيقي للعالم والقدرة على الاستنتاج المنطقي الذي يميز الذكاء البشري.
يقول ليكان "إن طلاقة هذه الأنظمة تخدعنا، ونظن أنها تمتلك كل خصائص الذكاء البشري لمجرد أنها تتحدث بطلاقة. لكن هذا انطباع خاطئ".
ويذهب إلى أبعد من ذلك، حين يشكك في فكرة أن الذكاء الاصطناعي التوليدي -وهو النوع الذي تنتمي إليه نماذج اللغة الكبيرة - هو الطريق نحو تحقيق ذكاء اصطناعي حقيقي على مستوى الإنسان.
وينصح المهتمين: "إذا كنت مهتمًا حقًا بالذكاء الاصطناعي على مستوى الإنسان، فتخلَّ عن فكرة الذكاء الاصطناعي التوليدي،"
كيف يغيّر التفكير الكامن مستقبل الذكاء الاصطناعي؟
هنا يأتي دور البحث الجديد الذي قد يقلب الموازين، عمل عليه فريق من الباحثين من عدة مؤسسات، مثل معهد ماكس بلانك وجامعة ميريلاند
تحمل الدراسة عنوان "توسيع نطاق الحوسبة في وقت الاختبار باستخدام التفكير الكامن: نهج العمق المتكرر".
وتقدم تقنية جديدة تمامًا للتفكير داخل نماذج اللغة الكبيرة، كما طور الفريق نموذج تجريبي باسم Huginn-3.5B.
والفكرة الأساسية لهذا الموضوع بسيطة ولكنها عميقة.
من أشهر نماذج التفكير حاليًا هم OpenAI o1 و o3، وكذلك R1 من DeepSeek، و Gemini 2.0 Thinking.
هذه النماذج تفكر "بصوت عالٍ" عن طريق توليد سلسلة من الكلمات لتوضيح خطوات تفكيرها، وهي الطريقة المعروفة بـ "سلسلة التفكير".
وبدلا من ذلك، يقترح الباحثون جعل النموذج يفكر داخليًا، في "الفضاء الكامن" الخاص به، قبل أن يبدأ حتى في إخراج كلمة واحدة.
ولتوضيح الأمر، تخيل كأنك تحاول حل مسألة رياضية معقدة.
في الطريقة التقليدية (سلسلة التفكير)، قد تبدأ بالتفكير بصوت عالٍ، أو كتابة خطوات الحل واحدة تلو الأخرى، لتتبع عملية تفكيرك.
أما في الطريقة الجديدة (التفكير الكامن)، فالأمر أشبه بالتفكير العميق والصامت في المسألة في ذهنك أولاً، واستعراض الحلول المحتملة، ثم تقديم الإجابة النهائية فقط عندما تتكون لديك رؤية واضحة.
ما هو Huginn-3.5B؟ وكيف يعمل؟
يعتمد Huginn-3.5B على نهج استدلال كامن (Latent Reasoning).
حيث يستخدم ما يسمى "كتلة تكرارية" داخلية (Recurrent Depth Architecture).
وتسمح هذه الكتلة للنموذج بالدخول في حلقة من التفكير المتكرر، حيث يعيد النظر في المشكلة ويحللها بشكل أعمق، مرة بعد مرة، قبل أن يخرج بالإجابة النهائية.
كل هذا يحدث في الخفاء داخل النموذج، دون أن نرى أي كلمات أو خطوات تفكير وسيطة في البداية.

مزايا نماذج التفكير الكامن
أشار الباحثون إلى عدة مزايا محتملة لهذه التقنية الجديدة، تجعلها تتفوق على الطرق الحالية:
مرونة في الاستدلال: يمكن للنموذج قضاء وقت أطول في تحليل الأسئلة المعقدة، بينما ينجز المهام البسيطة بسرعة.
تقليل الحاجة إلى نوافذ سياق طويلة: لا يحتاج إلى قراءة كميات ضخمة من النصوص ليعمل بكفاءة.
عدم الاعتماد على بيانات تدريب خاصة: على عكس نماذج التفكير المتسلسل، يستطيع Huginn-3.5B العمل بكفاءة دون تدريب مسبق على أمثلة محددة للاستدلال.
تحكم في استخدام الموارد: يمكنه تحديد مقدار العمليات الحسابية المطلوبة لكل جزء من النص، مما يقلل من زمن الاستجابة ويجعل النموذج أكثر كفاءة.
والأهم من ذلك، أن التفكير الكامن قد يفتح الباب أمام نماذج قادرة على فهم أنواع من المعرفة والتفكير لا يمكن تمثيلها بسهولة بالكلمات.
وهذه النقطة تحديدًا قد تكون هي الإجابة على انتقادات يان ليكان، حيث أنها تسمح للنماذج بتجاوز حدود اللغة والتعامل مع مفاهيم مجردة وأكثر تعقيدًا.
الأداء والاختبارات

تم تدريب Huginn-3.5B على 800 مليار رمز تشمل نصوصًا عامة وبرمجة ورياضيات.
وعند اختباره على معايير مختلفة، حقق نتائج متقدمة:
- تفوق على نماذج أكبر مثل Pythia-6.9B وPythia-12B في اختبارات الذكاء والاستدلال.
- أظهر قدرة على تحسين دقته كلما زاد عدد دورات الحساب الداخلية.
- كان أكثر كفاءة في التعامل مع المسائل الرياضية المعقدة (GSM8K) مقارنة بنماذج تقليدية.

لماذا يعتبر Huginn-3.5B تقدمًا مهمًا؟
على عكس الطرق التقليدية التي تعتمد على التوسع في الحجم، يقدم هذا النموذج نهجًا أكثر ذكاءً يقترب من طريقة تفكير البشر.
نحن لا نفكر بطريقة خطية فقط، بل نقوم بإعادة تقييم أفكارنا داخليًا، وهذا بالضبط ما يحاول هذا النموذج تحقيقه.
ومن خلال تحسين الحسابات الداخلية، يوفر Huginn-3.5B أداءً قويًا دون الحاجة إلى موارد ضخمة.